مرّت أسابيع أخرى على مصطفى منذ آخر لقاء مع الظل. كان يعيش حياته بشكل شبه طبيعي، لكن بداخله كان يعرف أن النهاية لم تأتِ بعد. كانت تلك الليلة التي تحدث فيها الظل معه قد غيرت شيئًا في داخله؛ لم يعد يخاف بالطريقة ذاتها، لكنه أيضًا لم يكن مرتاحًا. كان يدرك أن هناك مواجهة أخيرة تنتظره، وأنه يجب أن يكون مستعدًا.
وفي إحدى الليالي، شعر مصطفى بأن الظلام أثقل من المعتاد. كانت الأضواء في منزله خافتة، والهواء في الغرفة باردًا على غير العادة. جلس مصطفى على سريره، حدّق في الظلام، وعرف أن الظل قد عاد. هذه المرة لم يكن بحاجة إلى البحث عنه أو أن يشعر بوجوده؛ لقد كان واضحًا. لم يكن كائنًا خارجيًا بعد الآن، بل كان شيئًا ينبعث من أعماقه.
ظهر الظل أمامه، لكن هذه المرة لم يكن مجرد شكل غامض أو كيان بعيد. كان يشبه مصطفى نفسه، لكن بنسخة مظلمة، مجسّدة من كل الألم والخوف الذي حاول مصطفى دفنه لسنوات.
**"أنت تعرف ما يجب عليك فعله الآن،"** قال الظل بصوت هادئ لكنه ثقيل بمعناه.
مصطفى، على الرغم من الرعشة التي كانت تسيطر على جسده، شعر بقوة لم يكن يتوقعها. لم يكن بإمكانه الهروب هذه المرة، ولم يكن يرغب في ذلك. كانت هذه اللحظة الحاسمة التي عرف أنه يجب أن يواجهها.
**"أعرف. لقد كنت أنتظر هذه اللحظة،"** قال مصطفى بنبرة حازمة، نظر إلى الظل مباشرة، وكأنه يرى نفسه في مرآة لا يمكن الهروب منها.
الظل اقترب أكثر، وعيناه – إن صح التعبير – توهجتا كالجمر. **"لقد عشت لسنوات وأنا في ظلالك. أنا الألم الذي دفنته، أنا الخوف الذي قيدك، أنا كل جزء من نفسك رفضت الاعتراف به. لكن الآن، حان الوقت لأن تختار: إما أن نتحد، أو أن نفترق للأبد."**
شعر مصطفى بوزن تلك الكلمات؛ كان عليه أن يقرر بين الهروب مجددًا أو أن يواجه الحقيقة كاملة. كان عليه أن يختار بين العيش في سلام مع نفسه، بكل جوانبها المظلمة والمضيئة، أو الاستمرار في الصراع الداخلي الذي أنهكه طوال حياته.
وبدلاً من أن يتراجع أو يشعر بالخوف، وقف مصطفى بثقة لم يشعر بها من قبل. **"لن أهرب منك بعد الآن،"** قال وهو يقترب من الظل بخطوات ثابتة. **"لكنني لن أسمح لك بالسيطرة عليّ. سأقبلك كجزء مني، كجزء من حياتي، لكنني سأبقى السيد على قراراتي. لن تكون أنت من يقودني، بل أنا من سيقودك."**
الظل توقف، وكأن تلك الكلمات أصابته بشيء لم يكن يتوقعه. للحظة، حل الصمت بينهما. كان كأن الزمن توقف، لا صوت سوى أنفاس مصطفى المتسارعة. لكن شيئًا غير متوقع حدث: الظل بدأ يتلاشى ببطء، ومع كل خطوة يختفي فيها جزء منه، شعر مصطفى بأن حملاً ثقيلاً يزول عن كتفيه.
قبل أن يختفي الظل بالكامل، سمع مصطفى صوتًا داخليًا، مختلفًا عن كل ما سمعه من قبل. **"لقد اخترت الطريق الصعب، لكن الصحيح. لقد قبلت ما كنت ترفضه لسنوات. لن أعود لآذيك، فأنت الآن تفهمني. لكن تذكر، أنا دائمًا هنا. إذا احتجت إلي، ستجدني."**
وفجأة، اختفى الظل بالكامل. لم يكن هناك أي أثر له. شعور غريب بالهدوء والسكينة ملأ المكان. لم يشعر مصطفى بهذا الشعور منذ زمن طويل. لم يكن مجرد انتصار على كائن غامض، بل كان انتصارًا على نفسه، على تلك الأجزاء التي كان يخشاها. لقد تعلم أن القوة الحقيقية تكمن في مواجهة خوفه والتصالح معه، وليس في الهروب منه.
في تلك الليلة، ولأول مرة منذ شهور، نام مصطفى بسلام. لم تعد الأحلام مليئة بالكائنات الغامضة أو الصراعات النفسية. استيقظ في صباح اليوم التالي، والشمس تملأ غرفته بإشراق دافئ. شعر مصطفى وكأنه قد وُلد من جديد، ليس كشخص مختلف، بل كشخص يعرف نفسه بكل جوانبها – المظلمة والمضيئة.
منذ تلك اللحظة، عاش مصطفى حياته بوعي جديد. لم يعد الظل يظهر خلف الأبواب أو يتسلل عبر النوافذ، لكنه لم يكن غائبًا بالكامل. كان دائمًا موجودًا في أعماق نفسه، كجزء من تاريخه وتجربته، لكنه لم يعد يسيطر عليه. لقد أصبح مصطفى سيد حياته أخيرًا، وقد تحرر من الخوف الذي كان يطارده.
وفي كل مرة كان يشعر بتلك اللحظة من الشك أو الضعف، كان يعرف أين يجد الظل. ليس كعدو، بل كحليف. جزء من نفسه يعينه على مواجهة الحياة بقوة أكبر، بشجاعة أكبر، وبتصالح مع كل ما هو داخله.
**النهاية.**
0 تعليقات